DSCF0228 أوكرانيا

أوكرانيا.. لماذا تفشل الثورة البرتقالية؟

عاطف معتمد / الثورة عند ماركس “قاطرة التاريخ” بدونها تتجمد أحلام الشعوب وتتعطل حركة الأمم. DSCF0228 أوكرانياالثورة هي التي صنعت الاتحاد السوفياتي، والثورة المضادة هي التي أسقطت الشيوعية بعد سبعة عقود ومهدت لانهيار السوفياتية في نهاية عام 1991.

في مطلع عام 2005 تمكن مئات الآلاف من المتظاهرين سلميا فيما عرفت بالثورة البرتقالية من تغيير نظام الحكم في أوكرانيا في مشهد عُدّ الأكثر تأثيرا منذ سقوط حائط برلين.

في السنوات التي تلت، تحول النموذج البرتقالي إلى رسالة أيديولوجية عابرة للحدود، وصلت أصداء الثورة إلى لبنان ومصر وشرق أفريقيا. في القارة الآسيوية وجهت روسيا والصين وأوزبكستان تحذيرات لمواطنيها بأن أية تنظيمات “برتقالية” سيتم سحقها بيد من حديد.

اليوم، وبعد خمس سنوات من ذلك الحدث يطيح الناخبون الأوكرانيون بزعيم الثورة فيكتور يوشينكو ومن بعده شريكته يوليا تيموشينكو، وتخرج كبرى وسائل الإعلام في العالم بعناوين متشابهة مفادها “الموت الحزين للثورة البرتقالية”.

هل حقا ماتت الثورة؟ وما علامات الموت أو البقاء؟ وأي مستقبل ينتظر أوكرانيا؟

ضرورة الثورة

قبل خمس سنوات وقف المواطن الأوكراني خلف الثورة البرتقالية دعما لمواجهة طبقة فاسدة من رجال الأعمال، كانت الدلائل جلية لا تخطئها العين، احتكار وتربح غير مشروع من نقل وبيع الغاز المستورد من روسيا، قرصنة أموال البلاد في شكل قروض من البنوك الوطنية ثم التهرب من السداد، فضلا عن هيمنة فئة قليلة من الأثرياء على قطاع المناجم ومصانع الصلب.

الأكثر قسوة كان ذلك التمثيل السياسي الهزلي في الأحزاب والبرلمان، حتى إن الأحزاب المقربة من السلطة كانت تبيع المقعد البرلماني بنحو ثلاثة ملايين دولار لمن يرغب من رجال الأعمال، هكذا تحول البرلمان الأوكراني إلى “ناد للمليونيرات” وليس مجلسا ممثلا عن الشعب، على نحو ما يرصد آسلوند وماك فول في كتابهما “ثورة بلون البرتقال” الصادر عام 2006 عن مركز كارنيجي.

وقف الشعب الأوكراني خلف فيكتور يوشينكو مستحضرا الفترة التي عمل فيها رئيسا للوزراء وحوّل العجز في ميزانية البلاد عام 1999 إلى فائض في ميزانية العام التالي. كان الشعب الأوكراني يتطلع إلى يوشينكو رئيس البنك المركزي السابق الذي أقر برنامجا للإصلاح الزراعي وأكمل طريق توزيع المزارع الجماعية على الفلاحين.

في ساحة ميدان الاستقلال في يناير/كانون الثاني 2005 وفي حضور نحو مليون مواطن أوكراني من مناصري الثورة البرتقالية، قدم زعيم الثورة فيكتور يوشينكو “الوعد المستحيل” حين قطع على نفسه عهدا بتحقيق عشرة أهداف، أهمها توفير خمسة ملايين فرصة عمل، وزياة الرواتب والمعاشات، وخفض الضرائب، وشن حرب على الفساد، ومضاعفة الناتج الزراعي، والحد من الفجوة بين الأثرياء والفقراء، وإيقاف الانكماش الديمغرافي في الأمة الأوكرانية.

كشْف الحساب بعد خمس سنوات أظهر أن قليلا من الوعود قد تحقق. لم يبتلع الشعب الأوكراني عدم التحسن في الظروف الاقتصادية، أو عدم توفير فرص عمل، أو زيادة نسبة من يعيشون دون خط الفقر إلى 37% من السكان.

تجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرا من الجماهير الحالمة صدقت أن الثورات الملونة هي هبة عفوية للشعوب. الحقائق التي تم ترجمتها لاحقا من الداخل الأوكراني تشير إلى أن الثورة البرتقالية وصلت بتمويل بعض رجال الأعمال المناوئين للنظام القديم.

فعلى سبيل المثال تكلف فيكتور يانكوفيتش ورجال الأعمال المناصرون له في الحملة الانتخابية لعام 2004 ما يزيد عن 700 مليون دولار، بينما دفع رجال أعمال منافسون يمولون الثوار البرتقاليين أكثر من 150 مليون دولار خصصت فقط لتغطية نفقات التجمهر في ميدان الاستقلال في مطلع عام 2005 من أجل توفير الخيام والتدفئة في ميدان الاستقلال الذي غمرته الثلوج، وتوزيع وجبات الطعام، وتمويل الفرق الموسيقية التي عزفت للأهازيج الثورية.

لم تكن الثورة البرتقالية حرة إذن، بل هي مدينة لمن دعمها ماليا، ومن فتح قنواته التلفزيونية الخاصة للدعاية، وانقسم رجال الأعمال في الدولة بدورهم إلى مناصرين للنظام القديم ومناصرين للحكومة البرتقالية.

لم يكن رجال الأعمال المحترفين للعمل السياسي يدعمون الثورات أو الشخصيات السياسية من أجل الديمقراطية أو حبا في رخاء الشعوب، بل انتظروا اقتسام الكعكة، وطالبوا بالسكوت عن ما يقومون به من أنشطة، المشروع منها وغير المشروع.

هكذا وقعت الصدمة الأكبر لجماهير العالم الثالث التي تراقب عن بعد، حين تأكدت أن الثورة البرتقالية لم تتحرك بـ”قوة المقهورين” التي تحدث عنها فاتسلاف هافيل في سبعينيات القرن العشرين، بل حركتها “أموال المنتفعين” من رجال أعمال الداخل ورجال مخابرات الخارج.

لماذا تفشل الثورة؟
ارتكب الرئيس فيكتور يوشينكو وحلفاؤه في الثورة البرتقالية أربعة أخطاء فادحة أودت بحياة الثورة البرتقالية، وهي:

أولا: عجز الحكومة البرتقالية عن مواجهة الفساد. فقد وجد يوشينكو نفسه أمام تراث من النهب حوّل أوكرانيا إلى ضيعات خاصة لشريحة رجال الأعمال المحترفين المنتهزين للمناصب السياسية.

لم يكن أمام يوشينكو سوى خيارين: أن يتبنى نهج فلاديمير بوتين (لم تكن لديه في الواقع مقومات تلك الشخصية) فيضرب بقبضة من حديد ويمارس الاعتقال والنفي والتصفية السياسية وهنا يفقد الرسالة التي جاء بها وهي الديمقراطية والحرية والتغيير السلمي. أو أن يمضي في الخيار الثاني ويعمل على تحسين الأوضاع بالتدريج، فيحافظ على شخصية الإصلاحي المستنير والرئيس الليبرالي الممدوح من الغرب، غير أن الزمن سرقه وضاعت خمس سنوات وبلاده في قبضة المنتفعين فعليا وتحت رئاسته صوريا.

يمكننا إذن فهم ثبات مؤشرات الفساد في أوكرانيا، فتقرير الشفافية الدولية لعام 2009 وضع أوكرانيا في المرتبة 146 (من بين 180 دولة) حين أعطاها 2.2 درجة (من إجمالي عشر درجات للشفافية الكاملة) وهي نفس الدرجة التي حصلت عليها في العام 2004 قبل قيام الثورة البرتقالية.

ثانيا: انهيار ثقة الشعب في حكومته. ففي الوقت الذي أرجع فيه شركاء الرئيس الأوكراني فشل الثورة إلى ضعف شخصية الرئيس، اتهم يوشينكو من جانبه شريكته رئيسة وزراء بلاده يوليا تيموشينكو بأنها سبب الفشل الاقتصادي في السنوات الخمس الأخيرة، وذلك بعد أن اتهمها سلفا بخيانة مبادئ الثورة حين تحولت فجأة إلى التصالح مع روسيا والتودد إلى فلاديمير بوتين.

على هذا النحو يؤكد عدد من المحللين من الداخل الأوكراني أن الناس لم يعد بمقدورهم تمييز الثوار الخائنين عن المجاهدين الشرفاء، فالألوان صارت في أوكرانيا اليوم رمادية لا برتقالية.

ثالثا: الإفلاس الأيديولوجي. معروف أن الثورة البرتقالية اشتعلت كي لا يصل إلى مقعد رئيس البلاد رئيس الوزراء السابق  فيكتور يانكوفيتش المعروف في الإعلام الغربي بـ”ابن روسيا البار”. لكن أن يضطر زعيم الثورة البرتقالية إلى قبول ابن روسيا البار مرة أخرى رئيسا لوزراء البلاد نتيجة سطوته وهيمنته البرلمانية والانتخابية فإن هذا صنع صدمة حقيقية لكل الحالمين (أو الواهمين) بالتغيير.

وأخذا بعين الاعتبار النتائج السابقة بدأ كثير من المحللين في سحب لقب “ثورة” مما حدث في أوكرانيا، وبدلا من ذلك يتعاطى كثير من الكتاب اليوم مع مفهوم “الانقلاب السياسي السلمي” أو “انتقال السلطة” بين جماعات المصلحة.

رابعا: انصراف الرعاة الرسميين عن احتضان “الثورة”. فالاتحاد الأوروبي لم يمارس سوى دور ناعم، وحلف الناتو وجد خسائر ضم أوكرانيا إليه في الوقت الحاضر أعلى من الأرباح المتوقعة في ظل التوتر مع روسيا. أما الولايات المتحدة التي كانت أول من بارك الثورة البرتقالية ودعم اشتعالها عبر اختراق منظمات المجتمع المدني، فقد وقفت مشلولة الحركة بسبب موقفها المتأزم في أفغانستان والعراق.

ولعل أكبر صدمة تلقتها الثورة البرتقالية ذلك التقاعس المدهش في موقف الولايات المتحدة التي اكتفت بمشاهدة حرب صيف 2008 حين قام الجيش الروسي بسحق الجيش الجورجي في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وكانت موسكو قاب قوسين أو أدنى من تصفية الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي زعيم ثورة مشابهة للثورة البرتقالية ألا وهي ثورة الورود، أمّ الثورات الملونة منذ العام 2003.

نظرة على الغد
في السابع من الشهر الجاري أجريت الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الأوكرانية. كانت النتيجة محسومة سلفا بين رئيسة الوزراء الحالية يوليا تيموشينكو ورئيس الوزراء السابق فيكتور يانكوفيتش. النتائج التي رجحت فوز يانكوفيتش أكدت أن الناخبين الأوكرانيين يعاقبون الثورة البرتقالية أكثر من أن يناصرون يانكوفيتش الذي لن يأتي بجديد على الساحة السياسية في البلاد.

في حملتها الرئاسية في شهر يناير/كانون الثاني 2010 كانت يوليا تيموشينكو قد وعدت بتبني نهج القبضة الحديدية، وأعربت أنها “تشعر بإعجاب بالغ بالنموذج الصيني الذي يقطعون فيه رقاب وأيادي الفاسدين والناهبين للدولة”.

لم يصدق أغلب الناخبين “الوعود المستحيلة” التي رددتها تيموشينكو بتبني منهج صارم يكافح الفساد، فليس هناك ما يضمن نجاحها في ذلك، فالسيدة تيموشينكو التي تنادي بالنهج الصيني لقطع رقاب النهابين هي نفسها على رأس قائمة أكبر أثرياء أوكرانيا المتربحين فجأة من بيع القطاع العام واحتكار تجارة الغاز في تسعينيات القرن العشرين، وتثار شكوك حول شرعية تكوين هذه المرأة الشابة لتلك الثروة الضخمة.

بوصول يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا تتوقف قاطرة التاريخ، فلا تمضي إلى الأمام ولا تتراجع إلى الخلف، الأرجح أن فيكتور يانكوفيتش لن يأخذ أوكرانيا إلى نسخة طبق الأصل من روسيا ولن يقطع خطوات “برتقالية” في مغازلة الغرب، ستمضي أوكرانيا خلال السنوات المقبلة في شكل من حلول الوسط تفقد معه البلاد بوصلتها.

لكن توقف عجلة التاريخ في أوكرانيا ليس مضمونا حتى النهاية، خاصة إذا وضعنا في الحسبان معطيات الجغرافيا السياسية لهذه الدولة المحورية التي ينتمي نصفها الشرقي إلى ثقافة ولغة روسية، ونصفها الغربي إلى هوية “أوروآسيوية” تجمع بين سياسة شرقية مستبدة واستعداد لتبني الليبرالية الغربية.

في الختام علينا حين نستشرف مستقبل هذه الدولة أن نضع في الحسبان أسطولا روسيا يربض في المياه الأوكرانية بميناء سيفاستوبول وقوات لحلف الناتو تزور الدولة من فترة لأخرى للتعاون العسكري ودراسة إمكانية انضمام أوكرانيا في المستقبل.

أوكرانيا دولة قوية ديمغرافيا (نحو 46 مليون نسمة) ولديها ثروات وموارد طبيعية وزراعية، وقاعدة صناعية راسخة، وقوة عاملة عالية التدريب، وكلها عوامل كفيلة بظهور واحدة من الدول الإقليمية الكبرى في القارة الأوروبية، لكنها في ميزان الجيوإستراتيجية دولة “عازلة” بين الطموح الروسي الحالم بالتوغل غربا وسعي حلف الناتو والولايات المتحدة للاقتراب من عظم الدب الروسي شرقا.

حين نراجع تاريخ أوكرانيا العريق، نتذكر كارل ماركس مرة أخرى، الذي يبدو أنه يحذرنا بقوله إن “التاريخ لا يصنع شيئا، لا يمتلك ثروات، ولا يخوض معارك. الرجال فقط هم من يفعلون ذلك”.

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …