%D9%81%D8%A4%D8%A7%D8%AF أوكرانيا

أوكرانيا بين “محرقة” الغاز الروسي والوعود الاوروبية الوردية

فؤاد خشيش/ لم تمنع حرارة الطقس المتدنية المتظاهرين الاوكران من النزول الى الشوارع ضد الحكومة أوكرانياالاوكرانية مطالبين بتحقيق مطالبهم الاقتصادية والسياسية وكذلك الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وهذا المطلب الاخير يواجه بقوة او بضغط كبير من قبل روسيا الاتحادية التي “تعتبره يمس بامنها القومي وان كان “يغلف” باحتجاجات ذات طابع اقتصادي” . وكان حزب الاقاليم الحاكم قد قام بحشد الالاف من المواطنين تأييداً للرئيس ياناكوفيتش والحكومة الاوكرانية وايضاً تأييداً لعودة العلاقات الروسية الاوكرانية الى سابق عهدها.

اذاً،تظاهرات وتظاهرات مضادة تعيش على ايقاعها اوكرانيا اليوم، والكل يدعي الحقيقة في مطالبه. وكانت السلطات الاوكرانية قد علّقت عملية التحضير لاتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي  الذي كان من المتوقع ان يتم توقيعه على جدول اعمال قمة في فيلنيوس في 28 و29 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بحسب مرسوم اصدره رئيس الوزراء ميكولا ازاروف.

وينص هذا المرسوم على “تعليق عملية التحضير لاتفاق الشراكة بين اوكرانيا والاتحاد الاوروبي” بهدف “ضمان الامن القومي واعادة تحريك العلاقات الاقتصادية مع روسيا وتحضير السوق الداخلية لعلاقات متساوية مع الاتحاد الاوروبي”.

وكانت اوكرانيا قد عرضت على موسكو والاتحاد الاوروبي انشاء لجنة ثلاثية حول التجارة و”اطلاق حوار حيوي مع روسيا والأعضاء الاخرين في الاتحاد الجمركي” الذي تقوده موسكو التي تدعو اوكرانيا للانضمام اليه منذ اشهر عدة.

 لا بد من الاشارة الى ان العلاقات الروسية الأوكرانية شهدت أكبر انفراج لها منذ ستة أعوام مع توقيع رئيسي البلدين انذاك ديمتري ميدفيديف و الحالي فيكتور يانوكوفيتش على اتفاقية التمديد لأسطول البحر الأسود الروسي المرابط في القرم مقابل تقديم تسهيلات غير مسبوقة بأسعار واردات الغاز الروسي. وشهدت العلاقات بين البلدين توترات سياسية في عهد الرئيس السابق يوتشينكو الذي اتبع سياسات موالية للغرب إثر انتصار الثورة البرتقالية .

لكن الانعطاف الجذري في العلاقات الروسية ـ الاوكرانية جاء بعد قمة مينسك لزعماء الدول المستقلة، حيث توصل بوتين وكوتشما الى اتفاق نهائي بشأن قضية الغاز،ووافق الجانب الروسي على اعادة هيكلة الديون الاوكرانية المتعلقة بالغاز، وتقديم قروض روسية الى اوكرانيا (يعادل حجمها 5 ـ 7 مليارات متر مكعب من الغاز لمدة 10 اعوام). وقال بوتين ان اتفاقيات مينسك قد غيرت بصورة جذرية العلاقات بين البلدين، وكذلك موقف الشركاء الاوروبيين من بلدينا.واشار كوتشما بدوره الى ان نقل الغاز الروسي عبر الاراضي الاوكرانية يمكن زيادته بدون انفاق اموال اضافية على توسيع خط الانابيب.

ثورة برتقالية ولكن؟

في مطلع عام 2005 تمكن مئات الآلاف من المتظاهرين سلمياً فيما عرفت بـ “الثورة البرتقالية” من تغيير نظام الحكم في أوكرانيا في مشهد عُدّ الأكثر تأثيراً منذ سقوط حائط برلين.في السنوات التي تلت، تحول النموذج البرتقالي إلى رسالة أيديولوجية عابرة للحدود، وصلت أصداؤه إلى مناطق متعددة من العالم . في القارة الآسيوية وجهت روسيا والصين وأوزبكستان تحذيرات لمواطنيها بأن أي تنظيم “برتقالي” سيتم سحقه بيد من حديد.ولكن، وبعد سنوات قليلة من ذلك الحدث، اطاح الناخبون الأوكرانيون بزعيم الثورة فيكتور يوشينكو ومن بعده شريكته يوليا تيموشينكو، وخرجت كبرى وسائل الإعلام في العالم بعناوين متشابهة مفادها “الموت الحزين للثورة البرتقالية”. هل حقا ماتت الثورة؟ وما علامات الموت أو البقاء؟ وأي مستقبل ينتظر أوكرانيا؟ خاصة العلاقة مع روسيا و الغرب ؟

قبل سنوات وقف المواطن الأوكراني خلف الثورة البرتقالية دعما لمواجهة طبقة فاسدة من رجال الأعمال، كانت الدلائل جلية لا تخطئها العين، احتكار ونهب غير مشروع من نقل وبيع الغاز المستورد من روسيا، قرصنة أموال اوكرانيا في شكل قروض من البنوك الوطنية ثم التهرب من السداد، فضلا عن هيمنة فئة قليلة من الأثرياء على قطاع المناجم ومصانع الصلب.الأكثر قسوة كان ذلك التمثيل السياسي الهزلي في الأحزاب والبرلمان، حتى إن الأحزاب المقربة من السلطة كانت تبيع المقعد البرلماني بنحو ثلاثة ملايين دولار لمن يرغب من رجال الأعمال، هكذا تحول البرلمان الأوكراني إلى “ناد للمليونيرات” وليس مجلسا ممثلا عن الشعب، كما قال آسلوند وماك فول في كتابهما “ثورة بلون البرتقال” الصادر عام 2006 عن مركز كارنيغي.وقف الشعب الأوكراني خلف فيكتور يوشينكو مستحضرا الفترة التي عمل فيها رئيساً للوزراء وحوّل العجز في ميزانية اوكرانيا عام 1999 إلى فائض في ميزانية العام التالي. كان الشعب الأوكراني يتطلع إلى يوشينكو رئيس البنك المركزي السابق، الذي أقر برنامجا للإصلاح الزراعي وأكمل طريق توزيع المزارع الجماعية على الفلاحين.في ساحة ميدان الاستقلال في يناير/ 2005 وفي حضور نحو مليون مواطن أوكراني من مناصري “الثورة البرتقالية”، قدم زعيم الثورة فيكتور يوشينكو “الوعد المستحيل” حين قطع على نفسه عهداً بتحقيق عشرة أهداف، أهمها توفير خمسة ملايين فرصة عمل، وزياة الرواتب ، وخفض الضرائب، وشن حرب على الفساد، ومضاعفة الناتج الزراعي ، والحد من الفجوة بين الأثرياء والفقراء ، وإيقاف الانكماش الديموغرافي في الأمة الأوكرانية. ولكن بعد سنوات ، تبين ان كل الوعود اكنت حبراً على ورق لاسباب ذاتية واخرى موضوعية. فالظروف الاقتصادية لم تتحسن ولم تتوفر فرص عمل كافية وازدادت نسبة من يعيشون دون خط الفقر إلى 37% من السكان. واشارت بعض الدراسات التي صدرت عن الثورة البرتقالية الى أن تلك الحركة التي هب الأوكرانيون عفويا الى تأييدها كانت ممولة من قبل بعض رجال الأعمال المناوئين للنظام القديم. فعلى سبيل المثال تكلف فيكتور يانكوفيتش ورجال الأعمال المناصرون له في الحملة الانتخابية لعام 2004 ما يزيد على 700 مليون دولار ، بينما دفع رجال أعمال منافسون يمولون الثوار البرتقاليين أكثر من 150 مليون دولار خصصت فقط لتغطية نفقات التجمهر في ميدان الاستقلال في مطلع عام 2005.

لم يكن رجال الأعمال المحترفين للعمل السياسي يدعمون الثورات أو الشخصيات السياسية من أجل الديموقراطية أو حبا في رخاء الشعوب ، بل انتظروا اقتسام كعكة السلطة والنفوذ، وطالبوا بالسكوت على ما يقومون به من نشاطات، “المشروع” منها و”غير المشروع”. هكذا وقعت الصدمة الأكبر لجماهير العالم الثالث التي تراقب عن بعد، حين تأكدت أن الثورة البرتقالية لم تتحرك بـ”قوة المقهورين” التي تحدث عنها فاتسلاف هافيل في سبعينيات القرن العشرين، بل حركتها “أموال المنتفعين” من رجال أعمال الداخل ورجال مخابرات الخارج. ارتكب الرئيس فيكتور يوشينكو وحلفاؤه في الثورة البرتقالية  في أخطاء فادحة أودت بحياة الثورة الموعودة ، منها: عجز الحكومة البرتقالية عن مواجهة الفساد. فقد وجد يوشينكو نفسه أمام تراث من النهب حوّل أوكرانيا إلى ضيعات خاصة لشريحة رجال الأعمال المحترفين المنتهزين للمناصب السياسية.لم يكن أمام يوشينكو سوى خيارين: أن يتبنى نهج فلاديمير بوتين (لم تكن لديه في الواقع مقومات تلك الشخصية) فيضرب بقبضة من حديد ويمارس الاعتقال والنفي والتصفية السياسية وهنا يفقد الرسالة التي جاء بها وهي الديموقراطية والحرية والتغيير السلمي، أو أن يمضي في الخيار الثاني ويعمل على تحسين الأوضاع بالتدريج، فيحافظ على شخصية الإصلاحي المستنير والرئيس الليبرالي الممدوح من الغرب، غير أن الزمن سرقه وضاعت خمس سنوات وبلاده في قبضة المنتفعين فعليا وتحت رئاسته صوريا. يمكننا إذن فهم ثبات مؤشرات الفساد في أوكرانيا، فتقرير

الشفافية الدولية لعام 2009 وضع أوكرانيا في المرتبة 146 (من بين 180 دولة) حين أعطاها 2.2 درجة (من إجمالي عشر درجات للشفافية الكاملة) وهي نفس الدرجة التي حصلت عليها في العام 2004 قبل قيام الثورة البرتقالية. وثانيا: انهيار ثقة الشعب في حكومته. ففي الوقت الذي أرجع فيه شركاء الرئيس الأوكراني فشل الثورة إلى ضعف شخصية الرئيس، اتهم يوشينكو من جانبه شريكته رئيسة وزراء يوليا تيموشينكو بأنها سبب الفشل الاقتصادي في السنوات الخمس الأخيرة، وذلك بعد أن اتهمها سلفا بخيانة مبادئ الثورة حين تحولت فجأة إلى التصالح مع روسيا والتودد إلى فلاديمير بوتين.على هذا النحو يؤكد عدد من المحللين من الداخل الأوكراني أن الناس لم يعد بمقدورهم تمييز “الثوار الخائنين” عن “المجاهدين الشرفاء”، فالألوان صارت في أوكرانيا “رمادية”. وكانت الصحافة الأوكرانية نفسها قد اعتبرت، بعد الانتخابات وإعلان النتائج، ان هزيمة بطلة الثورة البرتقالية في الانتخابات الرئاسية لم تكن مفاجئة. وسجلت في صفحاتها مسيرة الشعارات وما تحقق منها وكيف تعامل معها الناخبون الأوكرانيون يوم الانتخابات.‏ عنونت صحيفة “غازيتا برو كييفسكي” المقربة من تيموشنكو لدى تعليقها على استطلاعات الرأي لدى خروج الناخبين من مكاتب الاقتراع “إذن فهو يانوكوفيتش؟ لقد كان ذلك متوقعا ولم تحدث المعجزة”. وأضافت الصحيفة في إشارة إلى الأزمات السياسية وتدهور الوضع الاقتصادي “لقد حكم الأوكرانيون على النظام. ولم يكن بإمكان الرئيس فيكتور يوتشنكو (الذي هزم من الدورة الأولى) ورئيسة وزرائه تيموشنكو ان يأملا في الحصول على دعم شعبي واسع. ويكفي ان ننظر من حولنا”.  وثالثا: الإفلاس الأيديولوجي، لقد اندلعت الثورة البرتقالية لمنع رئيس الوزراء السابق فيكتور يانكوفيتش المعروف في الإعلام الغربي بـ”ابن روسيا البار” من الوصول الى سدة الرئاسة. لكن أن يضطر زعيم الثورة البرتقالية إلى قبول ابن روسيا البار مرة أخرى رئيسا لوزراء اوكرانيا نتيجة سطوته وهيمنته البرلمانية والانتخابية فإن هذا صنع صدمة حقيقية لكل الحالمين (أو الواهمين) بالتغيير. رابعا: انصراف الرعاة الرسميين عن احتضان “الثورة”. فالاتحاد الأوروبي لم يمارس سوى دور ناعم، وحلف الناتو وجد خسائر ضم أوكرانيا إليه في الوقت الحاضر أعلى من الأرباح المتوقعة في ظل التوتر مع روسيا. أما الولايات المتحدة التي كانت أول من بارك الثورة البرتقالية ودعم اشتعالها عبر اختراق منظمات المجتمع المدني، فقد وقفت مشلولة الحركة بسبب موقفها المتأزم في أفغانستان والعراق.. ويعود الموقف المحايد الذي تبناه الغرب من سير الانتخابات في اوكرانيا وعدم تدخله بنتائجها كما حدث في عام2004 الى قراءته الجديدة للوضع المترتب في العالم. وقدر الغرب ان تدهور علاقاته بروسيا بشأن أوكرانيا ستكلفه ثمنا باهظا ضمن هذا الوضع، وعلى خلفية تأجج مواجهات سياسية واقتصادية  كانت مرتقبة مع ايران والصين. ان الغرب يشعر بخيبة الامل من الفشل بتحقيق احلامه باوكرانيا. ان اساليب زعماء “الثورة البرتقالية” التي اتسمت بالخشونة لتجسيد مثل الديموقراطية الغربية لم تتح بلوغ الاهداف المنشودة منها، ولا سيما اندماج اوكرانيا كليا باوروبا، ولم ير اي هدف من اهداف الغرب النور. واصبح الاستقطاب الاجتماعي بديلا لتعميق” اشاعة الديموقراطية”، ولم تتمكن القيادة الاوكرانية من اقناع سكان اوكرانيا بأفضليات الانضمام لحلف الناتو، وظلت الغالبية تعارض مثل هذا التطور. وتراجعت مؤشرات الاقتصاد قبل ان يتم توجهيها نحو التكامل مع الغرب. ومس التطاحن الداخلي بين مختلف الجماعات والبطانات باوكرانيا ، مصالح الغرب ، لا سيما ما يتعلق بتوريدات الغاز من روسيا. وغدا الغرب يفضل التعامل من الزاوية الاقتصادية ليس مع حلفاء موثوق بهم ولكن مع نظام حكم يسيطر على الامور. وفي تقييمه للحالة القائمة قال وزير الخارجية الالماني السابق يوشكا فيشر ” ان عهد الثورة البرتقالية قد انتهى بهزيمة الرئيس فيكتور يوشينكو ورئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو، وبدلا عن عصرنة اوكرانيا التي تطلعوا لها في 2004 حصل الاوكرانييون على عداوة أهلية واستشراء الفساد الحكومي…”.

د. في تاريخ العلاقات الدولية

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …

اترك تعليقاً