يــاســيــن طــه حــافــظ / أصغي للريح تلقي علينا في هبوبها همهمات قصائد بلغات مجهولة، هي تنبهنا ثم تتركنا نصغي لما يأتي. اللغة موج يتوالى وأنت أمل تنتظر، لا يمكنك هنا أن تدعي أنك تؤكد حقائق أو تصنع مغريات. أنت ملك الكون الخريفي يتحكم فيه تآلف دفء الشمس وبرد الريح وورق الغابات. أستمع لموسيقى الأزمنة ولا يقطع التشبثات برق عابر. أشعر أن بعضاً مني يفارقني بفرح، يستجيب لنداء وإشارة وصول. لا أريد أن أنفصل عن المشهد وأنا أتابع الورق المهتز، الذي سيتساقط أصفر شاحباً من لمسات لذة أو ان عنتاً او شراسة أسقطته. لا أقول أزدادُ وحدةً ولا أقول وجدتُ ألفة، ولكنني في مجهول مسالم يقول ثمة ما يجب أن تراه، أن تحس به، أن تعرف الحياة حرةً في الغابات. شعرت بأنه عالمي وأنا مغترب عنه، أهمُّ، أريد الآن أن أعود إليه وأكون ثانية بعضاً منه. لكن الوقت انتهى وشعرت أن قوة من الخارج تسحبني بقوة بنوع من الغضب، أن أتوقف، أن أعود إلى الشوارع والناس والعربات والمخازن تتلامع شديدة الأضواء. في هذه القرية كما تسمى والتي تبعد عن أقرب مدينة ساعتين كاملتين في باص تجري في شارع مثل تلك التي تصل المدن بالقرى، أمضينا ثلاث ليالي، في بيت، هُيِّء لنا. هو كوخ حجري بغرفتين حوله حديقة واسعة، أجد شجرات عنب وأحراشاً وأشجاراً أجهل أسماءها ولم أسأل عنها.
انا منذ سنوات لم أنم في بستان، فقد غادرت البساتين إلى دخان المدينة وكذب السياسة والناس، وأمضيت بعيداً عن الأكواخ هذه السنوات. اليوم،أعيش عالم الشجر والدنيا التي تتباعد فيها البيوت والأصوات ونادراً ما تفاجئك فيها الغرائب.لكن أين قرانا من هذه القرية، التي هي بلدة صغيرة نظيفة؟ تبدو مترفة وحقيقة أمرها أن ناسها يعيشون الكفاف لكن لا تبدو عليهم حاجة ولا شحوب وإن بدت الأمنيات واضحةً بالأفضل. في هذه القرية معبدة الفروع، أو الأزقة، مكتبة عامة بطابقين ومكتبة أطفال وناد ومركز،سنتر، فيه مخازن بضاعتها أرخص من كييف العاصمة وخاركيف الأقرب إليها. وفي بعض دكاكينها حليب وجبن وعسل وثمار من نتاج البيوت وذلك المبنى الأبيض الواضح من بعيد، مستشفى المدينة الكبير. هذه كلها مبان ليست جديدة، هي مما تركته الاشتراكية قبل أن تغادر وثمة مجتمع إسكان متعدد المباني لم يكتمل حتى الآن، هو لا يزال بلا أبواب أو نوافذ ولا يزال يحتاج إلى تأثيث وتأسيسات. هو من آخر أيام الاشتراكية وصار التحول إلى «الحرية» فلم يكتمل حتى اليوم. الدولة الأوكرانية مقننة الاقتصاد وجاءت الحرب والتكاليف.
أرجأت أكماله. لها أولويات وتعمل على وفق جدول، لا أمزجة وطلبات. الحاجة له ليست ماسة هذه الأيام. ما يلفت النظر أن أحداً لم يقترب له، لم يتجاوز عليه، لم يحاول أحد لا سكن له، أن يحط رحاله في غرف منه، ظل كما هو تمر به الناس ولا أحد يدنو منه. الأوكرانيون ناس خلقوا على أدب ونظام واحترام مؤسسات الدولة. الحاجة لا تبيح الجريمة ولا التجاوز. النظام صارم شديد ضد الخطأ فاعتاد الناس على الصواب. «هذا مكان حلو لنجلس فيه، لنشرب قهوة، ستراه جميلاً..» قال ولدي . مقاعد نظيفة لا تتباهى كمقاعد المطاعم الفخمة، لكنها شبه مصاطب من خشب نظيف أبيض إلى ذهبي يلمع، نوافذها على الأشجار من جميع الجهات وصمت لا ألذ منه لنشرب أونقرأ رواية..التقطنا للمقهى صورة ونحن نغادر، متمنيا أن يكون لنا مكان مثل هذا نجد فيه وقتا للتأمل أو للكتابة أو لانتظار جميل. ولكننا نبقى نتمنى حتى ما هو ممكن وبسيط.الطريق لا يزال يتلوى بين الأشجار ليخرج بي إلى العالم، وقبل أن نقترب من الدنيا وعالمها الذي ألفناه، لاح بيتٌ صغيرٌ، حجري أصفر قليلا، مرتفع عن الأرض قليلاً وثمة سلم بثلاث أو أربع سلمات تصله بالأرض، عليه، في الشمس الخريفية، رأيت امرأة عجوزاً سيدة زمان مضى، أنحنى شعرها الأبيض الكثيف على الورق، تقرأ صحيفةً باهتمام، حتى أنها لم تنتبه لاقترابنا.
ما لهذه العجوز في البلدة الريفية جالسة تقلب الصحيفة وتقرأ باهتمام من يتفحص امراً أو يتفقد ممتلكات؟ وجهها الآن يكاد يمس الورق، ضعفُ بصرٍ بالتأكيد ونهايةُ عمرٍ لا ندري كيف مضى وما مرت به من أحداث وكم فرصُ الفرح أو الانتصار فيه، لكنه بيت لا يبدو فقيراً، بسيط ولكن بحالة يسر لا عسر. في بداية، أو نهاية، هذه القرية هي الأقرب للضوء المباشر من البيوت الغائبة بين الأشجار، هل أكون جريئاً أو متطفلاً لأعرف ما تقرأ؟ اقترابنا وتريثنا جوار البيت طال قليلاً، انتبهتْ لتطلُّعِنا وغرابة أشكالنا وربما لكثافة ما نرتدي، فهي لا تزال دنيا طيبة ولم يشتد البرد بالنسبة لهم وأشتد علينا، صار ضرورياً أن نحييها من بعد، ردت التحية وشجعنا الرد على الاقتراب منها: «سلاما؟» / «سلاما» أنتم غرباء لستم من القرية» / «نعم، نحن ضيوفها.»/»مرحباً..» قلت : «سيدتي أنا يهمني أن أعرف طبيعة الصحيفة التي تقرئين، تسلية أم سياسة وشأن عام؟» -»تسلية؟ لا.هي صحيفة جادة عن المجتمع والعالم». -»عن العالم؟ «. – «نعم، لماذا تستنكر؟ هو بلدي وهو عالمي أمضيت فيه عمري وأريد أن أعرف ما يجري فيه، أن أطمئن عليه قبل أن أغادره!». -ما أعظمك سيدتي! هذا درس أخلاقي لنا، درس في محبة العالم حتى ونحن نغادره!