مشلين بطرس / عندما بدأ سؤال الهوية يؤرق الإنسان العربي نتيجة احتكاكه بالآخر، الذي سبقة حضارياً، وبدأ يهدد وجوده حين زحف إلى الشرق مستعمراً، كتبت النصوص والقصص والروايات التي فتحت أسئلتها على أبواب التاريخ. فهل تشكلت هوية “الأنا” في الخطاب العربي عبر لقاء الآخر”الغرب” أم عبر مواجهته؟ أم الأثنين معاً، وهل نستطيع أن ننأى بأنفسنا عنه؟ وألا نعيش أجواء حداثته، فنحصد ثمارها على الرغم من توتر علاقتنا معه؟
ومن هنا تأتي الأسئلة بفضاءات مفتوحة على التأويل، فهل يمكن الانفتاح على الآخر والحفاظ على الهوية في الوقت نفسه؟ وهل نحن الخلاص بالنسبة للغرب، أم أن الغرب هو خلاصنا؟ أوليس من الأفضل أن يكون الشرق والغرب خلاص كوكبنا من هذه الحروب وهذا الدمار الذي يحلق في فضاء الكرة الأرضية؟
إنه السؤال ربما الذي طرحته رواية “أقاليم الخوف” للروائية الجزائرية فضيلة الفاروق، إذ تبدأ برنامجها السردي بضمير المتكلم الذي يوهم بتماهي صوت الراوي في النص مع صوت المؤلف الحقيقي في الواقع، كما يوهمنا بواقعية التجربة، وحقيقة الشخصيات، وقد وظف في الرواية توظيفاً فنياً خدم بنية السرد من بدايته حتى نهاية الرواية، لنجد أن الراوية لم تكن خارج العالم الروائي، بل كانت شخصية مركزية فيه، ومشاركة في صنع أحداثه كطرف رئيسي فيها وبذلك وقفت معها لاوراءها، وقد أتاحت هذه الصيغة للشخصية امكانية البوح الذاتي في استحضار ماضيها، وعلاقتها بالحاضر، وما رافق ذلك من تداعيات، وتعليقات تستوقف القارئ.
(غادرتُ ناطحات السحاب…تركت خلفي أرباباً وأربا،ً يجلسون فوق هذه الأرض، وكأنهم يجلسون أمام لوح شطرنج، ويلعبون…) تقول ماغي وهي الراوية وبطلة الرواية في آن، فهي تجعل القارئ يتعاطف معها في البداية ومع قصة حبها لإياد، وحبها لبيروت، والبحث عن جذورها الشرقية.
ولما كانت الشخصية عند رولان بارت هي المورفيم الفارغ الذي سيمتلئ تدريجياً بالدلالة كلما تقدمنا في قراءة النص، سيتفاجأ القارئ بشخصية ماغي الروائية لأنها لن تكون الشخصية ذاتها في آخر الرواية، فليس حبها لبيروت سوى تجسس على الشرق، وليس حبها لإياد سوى خدعة أو وسيلة لتحقق مآرب وأهداف المنظمة التي جندتها “إذ لم يكتشف إياد أبداً عقار مسح الذاكرة الذي كنت أدسه له في المشروب أو القهوة، وقد تركته وأغلقتُ ملفه، حين أصبح شخصاً غير قادر على الإنتاج)
لنجد أن التحول المفصلي في النظر إلى شخصية ماغي بالانتقال من كيانها المعطى اجتماعياً ونفسياً وفكرياً إلى وظيفتها والأدوار التي تقوم بها، عزز الموجة الروائية الجديدة التي أنزلت الشخصية لروائي عن عرشها المعهود، وجعلتها مجرد حرف أو رقم لا غير!! ومنه يمكن أن نستخلص أنه من الصعب على المبدع العربي أن يخرج من قهر التاريخ ويحرر ذاكرته من أوجاعه، لذا نستطيع أن نفهم لماذا تقهقرت إمكانية رسم صورة ايجابية للآخر، فأُجهضت علاقة الحب التي عايشنا ملامحها في بداية الرواية بين ماغي وإياد.
أما شخصية نوا فقد كانت الشخصية الجذابة في الرواية، فهي الشخصية التي تبحث عن الضمير والإنسانية في خضم التوحش وانقراض الإنسان. (وقد عثر على طفلة مسلمة مختبئة وسط الدمار، واحتضنها حامياً إياها، ولكنه لايذكر في تلك اللحظة، مسلحون، أخذوا منه الطفلة، وراحوا يبرحونه ضرباً، ثم مدّ أحد يده إلى عنقه واقتطع الصليب الذهبي الذي يعلقه ثم بصق عليه قائلاً: أنت لاتستحق أن تكون مسيحياً، أتدافع عن قذارة مسلمة مثل هذه؟) فإلى متى ستبقى الأديان توابيتاً تدفن فيها العقول المتحجرة؟؟؟
إنّ “أقاليم الخوف” تقارب صورة الأنا والآخر، الشرق والغرب، وتقدم شخصيات شرقية وغربية، تتصادم مع الآخر وتتمايز عنه، وقد ظهرت صورة مشوهة للمرأة الغربية بشخصية ماغي التي تظهر بظهر المستهترة بما لديها من قيم ومعايير، اللاهثة وراء ملذاتها، حتى يخيل للقارئ أنها مشاع مستباح للرجل الوسيم القادم من الشرق، وبالرغم من اهتمامها بالموسيقى والأدب إلا أنها شخصية تثير النفور منها في آخر الرواي، ربما لأن القارئ العربي هو الآخر لايستطيع أن يخرج من قهر التاريخ ويحرر ذاكرته من آلامه.
والآن وبعدما أصبحت بلاد الرعب أوطاني، هل ستستطيع الإنسانية أن تجد لها هوية، وأن تنعم بلحظة إنسان حق على كوكب الأرض هذا؟؟